روى مسلم في صحيحه : من حديث أبى الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء ، برأ بإذن الله عز وجل " .
وفي الصحيحين : عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " .
وفي مسند الإمام أحمد : من حديث زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول الله ! أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم " .
وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله " .
وفي المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه : " إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله " وفي المسند و السنن : عن أبي خزامة ، قال : قلت : يا رسول الله ! أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : " لكل داء دواء " ، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً ، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد ، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء ، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي ، نقله إلى داء آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصراً ، ومتى لم يقع المداوي على الدواء ، أو لم يقع الدواء على الداء ، لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء ، لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له ، أو القوة عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم المصادفة ، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا أحسن المحملين في الحديث .
والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص ، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل لسان ، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : " تدمر كل شيء بأمر ربها " [ الأحقاف : 25 ] أي كل شئ يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره كثيرة .
ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ، ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى ، وحكمته ، وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ، والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه ، كما أنه الغني بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته .
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا توكله عجزاً .
وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر ، فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة ، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي : أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني . قال : فممن الدواء ؟ قال : مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال : رجل أرسل الدواء على يديه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء" ، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم ، والزيادة في الأكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ، أورثته أمراضاً متنوعة ، منها بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة . والثانية : مرتبة الكفاية . والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها ، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثالث للنفس ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا كان في الأحيان ، فلا بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن ، حتى قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا .
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءاً نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير ، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت ، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد ، لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة ، وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه الأجسام ، ومتصلاً بها ، والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعداً لأن ينقلب ناراً لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام ، وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول ، فإن قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار ، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ، ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا الحجر على الحديد ، ظهرت النار ، وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط ، وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضاً .
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار ، كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار ، كما في البلورة ، لكنا نستبعد ذلك جداً في أجرام النبات والحيوان ، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار ، ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة ، كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها ، فلا تتولد النار
البتة ، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع ، فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية ، لكانت محالاً إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهراً طويلاً ، بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل .
الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل ، لكان مغلوباً بالجزء المائي الذي فيه ، وكان الجزء الناري مقهوراً به ، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب ، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جداً إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة ، يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء ، وفي بعضها أنه خلقه من تراب ، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين ، وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار ، وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالاً كالفخار ، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار ، بل جعل ذلك خاصية إبليس . وثبت في صحيح مسلم : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " ، وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ، ولا أن في مادته شيئاً من النار .
الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان ، وهي دليل على الأجزاء النارية ، وهذا لا يدل ، فإن أسباب الحرارة أعم من النار ، فإنها تكون عن النار تارة ، وعن الحركة أخرى ، وعن انعكاس الأشعة ، وعن سخونة الهواء ، وعن مجاورة النار ، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضاً ، وتكون عن أسباب أخر ، فلا يلزم من الحرارة النار .
قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما ، وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ، ولا متحداً به ، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد ، فلا يخلو ، إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا ، فإن حصل ، فهو الجزء الناري ، وإن لم يحصل ، لم يكن المركب مسخناً بطبعه ، بل إن سخن كان التسخين عرضياً ، فإذا زال التسخين العرضي ، لم يكن الشيء حاراً في طبعه ، ولا في كيفيته ، وكان بارداً مطلقاً ، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حاراً بالطبع ، فعلمنا أن حرارتها إنما كانت ، لأن فيها جوهراً نارياً .
وأيضاً فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد ، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد ، وكانت خالية عن المعاون والمعارض ، وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ، ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد ، لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله ، والشئ لا ينفعل عن مثله ، وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به ، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه ، وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون أولى ، فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ، ولا تألم به . قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها ، وطبيعتها النارية ، ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند الإمتزاج .
قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت ، فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ، ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتاً كان أو حيواناً أو معدناً ، وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الإمتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة ، وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك .
وأما حديث إحساس البدن بالبرد ، فنقول : هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخيناً ، ومن ينكر ذلك ؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار ، فإنه وإن كان كل نار مسخناً ، فإن هذه القضية لا تنعكس كلية ، بل عكسها الصادق بعض المسخن نار .
وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية ، فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية ، والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا ، وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات . وبالله التوفيق .
فصل
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع . . .
أحدها : بالأدوية الطبيعية .
والثاني : بالأدوية الإلهية .
والثالث : بالمركب من الأمرين .
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم ، فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ، ثم نذكر الأدوية الإلهية ، ثم المركبة .
وهذا إنما نشير إليه إشارة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث هادياً ، وداعياً إلى الله ، وإلى جنته ، ومعرفاً بالله ، ومبيناً للأمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها ، ومواقع سخطه وناهياً لهم عنها ، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم ،
وأخبار تخليق العالم ، وأمر المبدأ والمعاد ، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها ، وأسباب ذلك .
وأما طب الأبدان : فجاء من تكميل شريعته ، ومقصوداً لغيره ، بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه ، فإذا قدر على الإستغناء عنه، كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح ، وحفظ صحتها ، ودفع أسقامها ، وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول ، وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع ، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جداً ، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة ، وبالله التوفيق .
ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في هديه في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين : عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء " .
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ، ورأوه منافياً لدواء الحمى وعلاجها ، ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه ، فنقول : خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : عام لأهل الأرض ، وخاص ببعضهم ، فالأول : كعامة خطابه ، والثاني : كقوله : " لا تستقبلوا القبلة بغائط ، ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا ، أو غربوا " فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ، ولكن لأهل المدينة وما على سمتها ، كالشام وغيرها . وكذلك قوله : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .
وإذا عرف هذا ، فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ، وما والاهم ، إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس ، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً ، فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب ، وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن ، فتشتعل فيه اشتعالاً يضر بالأفعال الطبيعية ، وهي تنقسم إلى قسمين : عرضية : وهي الحادثة إما عن الورم ، أو الحركة ، أو إصابة حرارة الشمس ، أو القيظ الشديد ونحو ذلك .
ومرضية : وهي ثلاثة أنواع ، وهي لا تكون إلا في مادة أولى ، ثم منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم ، لأنها في الغالب تزول في يوم ، ونهايتها ثلاثة أيام ، وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية ، وهي أربعة أصناف : صفراوية ، وسوداوية ، وبلغمية ، ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية ، سميت حمى دق ، وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة .
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعاً عظيماً لا يبلغه الدواء ، وكثيراً ما يكون حمى يوم ، وحمى العفن سبباً لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها ، وسبباً لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة .
وأما الرمد الحديث والمتقادم ، فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءاً عجيباً سريعاً ، وتنفع من الفالج ، واللقوة ، والتشنج الإمتلائي ، وكثيراً من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة .
وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيراً من الأمراض نستبشر فيها بالحمى ، كما يستبشر المريض بالعافية ، فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير ، فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن ، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها ، فأخرجها ، فكانت سبباً للشفاء .
وإذا عرف هذا ، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية ، فإنها تسكن على المكان بالإنغماس في الماء البارد، وسقي الماء البارد المثلوج ، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر ، فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح ، فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها ، وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة ، أو انتظار نضج .
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات ، وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها ، قال في المقالة العاشرة من كتاب حيلة البرء : ولو أن رجلاً شاباً حسن اللحم ، خصب البدن في وقت القيظ ، وفي وقت منتهى الحمى ، وليس في أحشائه ورم ، استحم بماء بارد أو سبح فيه ، لانتفع بذلك .
وفي الصحيحين : عن عطاء ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء " .
وفي مسند الإمام أحمد : من حديث زياد بن علاقة ، عن أسامة بن شريك ، قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءت الأعراب ، فقالوا : يا رسول الله ! أنتداوى ؟ فقال : " نعم يا عباد الله تداووا ، فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد ، قالوا : ما هو ؟ قال : الهرم " .
وفي لفظ : " إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه وجهله من جهله " .
وفي المسند : من حديث ابن مسعود يرفعه : " إن الله عز وجل لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء ، علمه من علمه ، وجهله من جهله " وفي المسند و السنن : عن أبي خزامة ، قال : قلت : يا رسول الله ! أرأيت رقى نسترقيها ، ودواء نتداوى به ، وتقاة نتقيها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ فقال : " هي من قدر الله " .
فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات ، وإبطال قول من أنكرها ، ويجوز أن يكون قوله : " لكل داء دواء " ، على عمومه حتى يتناول الأدواء القاتلة ، والأدواء التي لا يمكن لطبيب أن يبرئها ، ويكون الله عز وجل قد جعل لها أدوية تبرئها ، ولكن طوى علمها عن البشر ، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً ، لأنه لا علم للخلق إلا ما علمهم الله ، ولهذا علق النبي صلى الله عليه وسلم الشفاء على مصادفة الدواء للداء ، فإنه لا شئ من المخلوقات إلا له ضد ، وكل داء له ضد من الدواء يعالج بضده ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم البرء بموافقة الداء للدواء ، وهذا قدر زائد على مجرد وجوده ، فإن الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي ، نقله إلى داء آخر ، ومتى قصر عنها لم يف بمقاومته ، وكان العلاج قاصراً ، ومتى لم يقع المداوي على الدواء ، أو لم يقع الدواء على الداء ، لم يحصل الشفاء ، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء ، لم ينفع ، ومتى كان البدن غير قابل له ، أو القوة عاجزة عن حمله ، أو ثم مانع يمنع من تأثيره ، لم يحصل البرء لعدم المصادفة ، ومتى تمت المصادفة حصل البرء بإذن الله ولا بد ، وهذا أحسن المحملين في الحديث .
والثاني : أن يكون من العام المراد به الخاص ، لا سيما والداخل في اللفظ أضعاف أضعاف الخارج منه ، وهذا يستعمل في كل لسان ، ويكون المراد أن الله لم يضع داء يقبل الدواء إلا وضع له دواء ، فلا يدخل في هذا الأدواء التي لا تقبل الدواء ، وهذا كقوله تعالى في الريح التي سلطها على قوم عاد : " تدمر كل شيء بأمر ربها " [ الأحقاف : 25 ] أي كل شئ يقبل التدمير ، ومن شأن الريح أن تدمره ، ونظائره كثيرة .
ومن تأمل خلق الأضداد في هذا العالم ، ومقاومة بعضها لبعض ، ودفع بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، تبين له كمال قدرة الرب تعالى ، وحكمته ، وإتقانه ما صنعه ، وتفرده بالربوبية ، والوحدانية ، والقهر ، وأن كل ما سواه فله ما يضاده ويمانعه ، كما أنه الغني بذاته ، وكل ما سواه محتاج بذاته .
وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي ، وأنه لا ينافي التوكل ، كما لا ينافيه دفع داء الجوع ، والعطش ، والحر ، والبرد بأضدادها ، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً ، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل ، كما يقدح في الأمر والحكمة ، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل ، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ، ودفع ما يضره في دينه ودنياه ، ولا بد مع هذا الإعتماد من مباشرة الأسباب ، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع ، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ، ولا توكله عجزاً .
وفيها رد على من أنكر التداوي ، وقال : إن كان الشفاء قد قدر ، فالتداوي لا يفيد ، وإن لم يكن قد قدر ، فكذلك . وأيضاً ، فإن المرض حصل بقدر الله ، وقدر الله لا يدفع ولا يرد ، وهذا السؤال هو الذي أورده الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأما أفاضل الصحابة ، فأعلم بالله وحكمته وصفاته من أن يوردوا مثل هذا ، وقد أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما شفى وكفى ، فقال : هذه الأدوية والرقى والتقى هي من قدر الله ، فما خرج شئ عن قدره ، بل يرد قدره بقدره ، وهذا الرد من قدره ، فلا سبيل إلى الخروج عن قدره بوجه ما ، وهذا كرد قدر الجوع ، والعطش والحر ، والبرد بأضدادها ، وكرد قدر العدو بالجهاد وكل من قدر الله : الدافع ، والمدفوع والدفع .
ويقال لمورد هذا السؤال : هذا يوجب عليك أن لا تباشر سبباً من الأسباب التي تجلب بها منفعة ، أو تدفع بها مضرة ، لأن المنفعة والمضرة إن قدرتا ، لم يكن بد من وقوعهما ، وإن لم تقدرا لم يكن سبيل إلى وقوعهما ، وفي ذلك خراب الدين والدنيا ، وفساد العالم ، وهذا لا يقوله إلا دافع للحق ، معاند له ، فيذكر القدر ليدفع حجة المحق عليه ، كالمشركين الذين قالوا : " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا " [ الأنعام : 148 ] ، و " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا " [ النحل : 35 ] ، فهذا قالوه دفعاً لحجة الله عليهم بالرسل .
وجواب هذا السائل أن يقال : بقي قسم ثالث لم تذكره ، هو أن الله قدر كذا وكذا بهذا السبب ، فإن أتيت بالسبب حصل المسبب ، وإلا فلا ، فإن قال : إن كان قدر لي السبب ، فعلته ، وإن لم يقدره لي لم أتمكن من فعله .
قيل : فهل تقبل هذا الإحتجاج من عبدك ، وولدك ، وأجيرك إذا احتج به عليك فيما أمرته به ، ونهيته عنه فخالفك ؟ فإن قبلته ، فلا تلم من عصاك ، وأخذ مالك ، وقذف عرضك ، وضيع حقوقك ، وإن لم تقبله ، فكيف يكون مقبولاً منك في دفع حقوق الله عليك. وقد روي في أثر إسرائيلي : أن إبراهيم الخليل قال : يا رب ممن الداء ؟ قال : مني . قال : فممن الدواء ؟ قال : مني. قال : فما بال الطبيب ؟ . قال : رجل أرسل الدواء على يديه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء" ، تقوية لنفس المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ، فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ، ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه . وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ، وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
فصل
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم ، والزيادة في الأكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ملأ آدمي وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ، أورثته أمراضاً متنوعة ، منها بطيء الزوال وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة . والثانية : مرتبة الكفاية . والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها ، فإن تجاوزها ، فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثالث للنفس ، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع . فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا كان في الأحيان ، فلا بأس به ، فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن ، حتى قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل الصحابة بحضرته مراراً حتى شبعوا .
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم النبي صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءاً نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير ، واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ، فلو نزلت ، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن تلك الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد ، لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة ، وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه الأجسام ، ومتصلاً بها ، والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط بأجسام عظيمة ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعداً لأن ينقلب ناراً لأنه في نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام ، وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول ، فإن قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار ، وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ، ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا الحجر على الحديد ، ظهرت النار ، وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط ، وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضاً .
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار ، كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين الشمس محدثة للنار ، كما في البلورة ، لكنا نستبعد ذلك جداً في أجرام النبات والحيوان ، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب حدوث النار ، ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة ، كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها ، فلا تتولد النار
البتة ، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع ، فلو كانت تلك السخونة بسبب الأجزاء النارية ، لكانت محالاً إذ تلك الأجزاء النارية مع حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهراً طويلاً ، بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل .
الوجه الثالث : أنه لو كان في الحيوان والنبات جزء ناري بالفعل ، لكان مغلوباً بالجزء المائي الذي فيه ، وكان الجزء الناري مقهوراً به ، وغلبة بعض الطبائع والعناصر على بعض يقتضي انقلاب طبيعة المغلوب إلى طبيعة الغالب ، فكان يلزم بالضرورة انقلاب تلك الأجزاء النارية القليلة جداً إلى طبيعة الماء الذي هو ضد النار
الوجه الرابع : أن الله سبحانه وتعالى ذكر خلق الإنسان في كتابه في مواضع متعددة ، يخبر في بعضها أنه خلقه من ماء ، وفي بعضها أنه خلقه من تراب ، وفي بعضها أنه خلقه من المركب منهما وهو الطين ، وفي بعضها أنه خلقه من صلصال كالفخار ، وهو الطين الذي ضربته الشمس والريح حتى صار صلصالاً كالفخار ، ولم يخبر في موضع واحد أنه خلقه من نار ، بل جعل ذلك خاصية إبليس . وثبت في صحيح مسلم : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " ، وهذا صريح في أنه خلق مما وصفه الله في كتابه فقط ، ولم يصف لنا سبحانه أنه خلقه من نار ، ولا أن في مادته شيئاً من النار .
الوجه الخامس : أن غاية ما يستدلون به ما يشاهدون من الحرارة في أبدان الحيوان ، وهي دليل على الأجزاء النارية ، وهذا لا يدل ، فإن أسباب الحرارة أعم من النار ، فإنها تكون عن النار تارة ، وعن الحركة أخرى ، وعن انعكاس الأشعة ، وعن سخونة الهواء ، وعن مجاورة النار ، وذلك بواسطة سخونة الهواء أيضاً ، وتكون عن أسباب أخر ، فلا يلزم من الحرارة النار .
قال أصحاب النار : من المعلوم أن التراب والماء إذا اختلطا فلا بد لهما من حرارة تقتضي طبخهما وامتزاجهما ، وإلا كان كل منهما غير ممازج للآخر ، ولا متحداً به ، وكذلك إذا ألقينا البذر في الطين بحيث لا يصل إليه الهواء ولا الشمس فسد ، فلا يخلو ، إما أن يحصل في المركب جسم منضج طابخ بالطبع أو لا ، فإن حصل ، فهو الجزء الناري ، وإن لم يحصل ، لم يكن المركب مسخناً بطبعه ، بل إن سخن كان التسخين عرضياً ، فإذا زال التسخين العرضي ، لم يكن الشيء حاراً في طبعه ، ولا في كيفيته ، وكان بارداً مطلقاً ، لكن من الأغذية والأدوية ما يكون حاراً بالطبع ، فعلمنا أن حرارتها إنما كانت ، لأن فيها جوهراً نارياً .
وأيضاً فلو لم يكن في البدن جزء مسخن لوجب أن يكون في نهاية البرد ، لأن الطبيعة إذا كانت مقتضية للبرد ، وكانت خالية عن المعاون والمعارض ، وجب انتهاء البرد إلى أقصى الغاية ، ولو كان كذلك لما حصل لها الإحساس بالبرد ، لأن البرد الواصل إليه إذا كان في الغاية كان مثله ، والشئ لا ينفعل عن مثله ، وإذا لم ينفعل عنه لم يحس به ، وإذا لم يحس به لم يتألم عنه ، وإن كان دونه فعدم الإنفعال يكون أولى ، فلو لم يكن في البدن جزء مسخن بالطبع لما انفعل عن البرد ، ولا تألم به . قالوا : وأدلتكم إنما تبطل قول من يقول : الأجزاء النارية باقية في هذه المركبات على حالها ، وطبيعتها النارية ، ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : إن صورتها النوعية تفسد عند الإمتزاج .
قال الآخرون : لم لا يجوز أن يقال : إن الأرض والماء والهواء إذا اختلطت ، فالحرارة المنضجة الطابخة لها هي حرارة الشمس وسائر الكواكب ، ثم ذلك المركب عند كمال نضجه مستعد لقبول الهيئة التركيبية بواسطة السخونة نباتاً كان أو حيواناً أو معدناً ، وما المانع أن تلك السخونة والحرارة التي في المركبات هي بسبب خواص وقوى يحدثها الله تعالى عند ذلك الإمتزاج لا من أجزاء نارية بالفعل ؟ ولا سبيل لكم إلى إبطال هذا الإمكان البتة ، وقد اعترف جماعة من فضلاء الأطباء بذلك .
وأما حديث إحساس البدن بالبرد ، فنقول : هذا يدل على أن في البدن حرارة وتسخيناً ، ومن ينكر ذلك ؟ لكن ما الدليل على انحصار المسخن في النار ، فإنه وإن كان كل نار مسخناً ، فإن هذه القضية لا تنعكس كلية ، بل عكسها الصادق بعض المسخن نار .
وأما قولكم بفساد صورة النار النوعية ، فأكثر الأطباء على بقاء صورتها النوعية ، والقول بفسادها قول فاسد قد اعترف بفساده أفضل متأخريكم في كتابه المسمى بالشفا ، وبرهن على بقاء الأركان أجمع على طبائعها في المركبات . وبالله التوفيق .
فصل
وكان علاجه صلى الله عليه وسلم للمرض ثلاثة أنواع . . .
أحدها : بالأدوية الطبيعية .
والثاني : بالأدوية الإلهية .
والثالث : بالمركب من الأمرين .
ونحن نذكر الأنواع الثلاثة من هديه صلى الله عليه وسلم ، فنبدأ بذكر الأدوية الطبيعية التي وصفها واستعملها ، ثم نذكر الأدوية الإلهية ، ثم المركبة .
وهذا إنما نشير إليه إشارة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعث هادياً ، وداعياً إلى الله ، وإلى جنته ، ومعرفاً بالله ، ومبيناً للأمة مواقع رضاه وآمراً لهم بها ، ومواقع سخطه وناهياً لهم عنها ، ومخبرهم أخبار الأنبياء والرسل وأحوالهم مع أممهم ،
وأخبار تخليق العالم ، وأمر المبدأ والمعاد ، وكيفية شقاوة النفوس وسعادتها ، وأسباب ذلك .
وأما طب الأبدان : فجاء من تكميل شريعته ، ومقصوداً لغيره ، بحيث إنما يستعمل عند الحاجة إليه ، فإذا قدر على الإستغناء عنه، كان صرف الهمم والقوى إلى علاج القلوب والأرواح ، وحفظ صحتها ، ودفع أسقامها ، وحميتها مما يفسدها هو المقصود بالقصد الأول ، وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع ، وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جداً ، وهي مضرة زائلة تعقبها المنفعة الدائمة التامة ، وبالله التوفيق .
ذكر القسم الأول وهو العلاج بالأدوية الطبيعية
فصل
في هديه في علاج الحمى
ثبت في الصحيحين : عن نافع ، عن ابن عمر ، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنما الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم ، فأبردوها بالماء " .
وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء ، ورأوه منافياً لدواء الحمى وعلاجها ، ونحن نبين بحول الله وقوته وجهه وفقهه ، فنقول : خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان : عام لأهل الأرض ، وخاص ببعضهم ، فالأول : كعامة خطابه ، والثاني : كقوله : " لا تستقبلوا القبلة بغائط ، ولا بول ، ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا ، أو غربوا " فهذا ليس بخطاب لأهل المشرق والمغرب ولا العراق ، ولكن لأهل المدينة وما على سمتها ، كالشام وغيرها . وكذلك قوله : " ما بين المشرق والمغرب قبلة " .
وإذا عرف هذا ، فخطابه في هذا الحديث خاص بأهل الحجاز ، وما والاهم ، إذ كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس ، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً ، فإن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب ، وتنبث منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن ، فتشتعل فيه اشتعالاً يضر بالأفعال الطبيعية ، وهي تنقسم إلى قسمين : عرضية : وهي الحادثة إما عن الورم ، أو الحركة ، أو إصابة حرارة الشمس ، أو القيظ الشديد ونحو ذلك .
ومرضية : وهي ثلاثة أنواع ، وهي لا تكون إلا في مادة أولى ، ثم منها يسخن جميع البدن . فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمى يوم ، لأنها في الغالب تزول في يوم ، ونهايتها ثلاثة أيام ، وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية ، وهي أربعة أصناف : صفراوية ، وسوداوية ، وبلغمية ، ودموية . وإن كان مبدأ تعلقها بالأعضاء الصلبة الأصلية ، سميت حمى دق ، وتحت هذه الأنواع أصناف كثيرة .
وقد ينتفع البدن بالحمى انتفاعاً عظيماً لا يبلغه الدواء ، وكثيراً ما يكون حمى يوم ، وحمى العفن سبباً لإنضاج مواد غليظة لم تكن تنضج بدونها ، وسبباً لتفتح سدد لم يكن تصل إليها الأدوية المفتحة .
وأما الرمد الحديث والمتقادم ، فإنها تبرئ أكثر أنواعه برءاً عجيباً سريعاً ، وتنفع من الفالج ، واللقوة ، والتشنج الإمتلائي ، وكثيراً من الأمراض الحادثة عن الفضول الغليظة .
وقال لي بعض فضلاء الأطباء : إن كثيراً من الأمراض نستبشر فيها بالحمى ، كما يستبشر المريض بالعافية ، فتكون الحمى فيه أنفع من شرب الدواء بكثير ، فإنها تنضج من الأخلاط والمواد الفاسدة ما يضر بالبدن ، فإذا أنضجتها صادفها الدواء متهيئة للخروج بنضاجها ، فأخرجها ، فكانت سبباً للشفاء .
وإذا عرف هذا ، فيجوز أن يكون مراد الحديث من أقسام الحميات العرضية ، فإنها تسكن على المكان بالإنغماس في الماء البارد، وسقي الماء البارد المثلوج ، ولا يحتاج صاحبها مع ذلك إلى علاج آخر ، فإنها مجرد كيفية حارة متعلقة بالروح ، فيكفي في زوالها مجرد وصول كيفية باردة تسكنها ، وتخمد لهبها من غير حاجة إلى استفراغ مادة ، أو انتظار نضج .
ويجوز أن يراد به جميع أنواع الحميات ، وقد اعترف فاضل الأطباء جالينوس : بأن الماء البارد ينفع فيها ، قال في المقالة العاشرة من كتاب حيلة البرء : ولو أن رجلاً شاباً حسن اللحم ، خصب البدن في وقت القيظ ، وفي وقت منتهى الحمى ، وليس في أحشائه ورم ، استحم بماء بارد أو سبح فيه ، لانتفع بذلك .